الصرع واحد من أقدم الأمراض العصبية التي عرفها الإنسان، وهو مرض يتميز بحدوث نوبات متكررة من النشاط الكهربائي غير الطبيعي في الدماغ تؤدي إلى فقدان الوعي أو حركات تشنجية أو اضطراب في الإحساس والسلوك. رغم التقدم الكبير في الأدوية المضادة للصرع فإن حوالي ثلث المرضى لا يستجيبون بشكل كاف للعلاجات المتوفرة ويظلون يعانون من النوبات بشكل متكرر. لذلك يتزايد الاهتمام بالبحث عن بدائل طبيعية أو مكملة قد تساعد في تخفيف هذه الحالة.
إحدى المفاجآت التي لفتت انتباه الباحثين في السنوات الأخيرة هي عشبة الحرمل المعروفة علميا باسم Peganum harmala. هذه النبتة الصحراوية تنمو بكثرة في مناطق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وآسيا الوسطى، وقد استخدمها الطب الشعبي منذ قرون لعلاج عدة أمراض أبرزها الصرع والتشنجات العصبية.
الحرمل في الطب التقليدي
يعود استخدام الحرمل في علاج الأمراض العصبية إلى قرون طويلة حيث كان البدو في الصحراء يغليون بذوره ويستخدمونها كمشروب مهدئ للتشنجات والكوابيس. كما استخدمت بخور الحرمل في بعض المناطق لطرد الأرواح الشريرة وكان الاعتقاد الشعبي أن له قوة خاصة على تهدئة الدماغ. ورغم الطابع الأسطوري لهذه الاستخدامات فإن بعض الحقائق العلمية بدأت تؤكد أن لهذا النبات بالفعل تأثيرات دوائية حقيقية على الجهاز العصبي.
المكونات الكيميائية الفعالة
أظهرت التحاليل الكيميائية أن بذور الحرمل غنية بمجموعة من المركبات القلويدية أهمها الهارمين والهارمالين والهارمالول. هذه المواد تنتمي إلى عائلة البيتا كاربولين وهي مركبات معروفة بتأثيرها المباشر على الناقلات العصبية في الدماغ.
تشير الدراسات المخبرية إلى أن هذه القلويدات تعمل كمثبطات لإنزيم مونوأمين أوكسيداز MAO وهو إنزيم مسؤول عن تكسير بعض النواقل العصبية مثل السيروتونين والدوبامين. هذا التثبيط يؤدي إلى زيادة مستويات هذه المواد في الدماغ مما يساهم في تهدئة النشاط العصبي المفرط الذي قد يكون وراء نوبات الصرع.
الأدلة العلمية والدراسات
في عام 2012 نشرت دراسة في مجلة Journal of Ethnopharmacology أظهرت أن مستخلص بذور الحرمل يمتلك تأثيرا مضادا للتشنجات في نماذج حيوانية من الصرع. وقد تبين أن المركبات القلويدية الموجودة فيه تقلل من شدة وتواتر النوبات.
وفي دراسة أخرى أجريت في جامعة طهران للعلوم الطبية عام 2015 تبين أن مستخلص الحرمل استطاع تقليل النشاط الكهربائي المفرط في أدمغة الفئران المستحثة كيميائيا للصرع. الباحثون خلصوا إلى أن التأثير ربما يعود إلى آلية مزدوجة تشمل زيادة نشاط حمض غاما أمينوبوتيريك GABA وهو الناقل المثبط الأساسي في الدماغ إضافة إلى التأثير على نظام السيروتونين.
كما أشار تقرير نشر عام 2018 إلى أن بعض المرضى الذين استخدموا مشروبات تقليدية تحتوي على الحرمل أفادوا بانخفاض ملحوظ في تواتر النوبات الصرعية. ومع ذلك أكد الباحثون ضرورة إجراء تجارب سريرية واسعة للتأكد من فعالية وأمان هذه العشبة عند الإنسان.
المخاطر والاحتياطات
رغم الإمكانات الكبيرة التي تظهرها الأبحاث حول الحرمل إلا أن استخدامه يجب أن يتم بحذر شديد. فالمركبات القلويدية فيه قوية التأثير وقد تسبب تسمما إذا استعملت بجرعات عالية. من أعراض التسمم بالحرمل الغثيان والتقيؤ واضطرابات الرؤية وتسارع ضربات القلب وحتى الهلوسة في بعض الحالات.
لهذا يؤكد الأطباء أن الحرمل لا يجب أن يستخدم بشكل عشوائي أو بجرعات شعبية غير محسوبة. بل من الضروري أن يتم استخلاص مواده الفعالة بطريقة علمية وتحت إشراف متخصصين لتحديد الجرعات المناسبة والآمنة.
الأمل في المستقبل
اليوم ينظر العلماء إلى الحرمل كنموذج مهم لاكتشاف أدوية جديدة مضادة للصرع من أصل طبيعي. فالمركبات المستخلصة منه قد تشكل أساسا لتطوير أدوية أكثر أمانا وفعالية من بعض العلاجات الكيميائية الحالية. بالفعل هناك فرق بحثية تعمل على تعديل هذه القلويدات كيميائيا لتقليل سميتها وزيادة فعاليتها العلاجية.
كما أن فكرة الدمج بين العلاجات التقليدية مثل الحرمل والأدوية الحديثة قد تفتح آفاقا جديدة للمرضى الذين لا يستجيبون للعلاجات المتوفرة. ومع ازدياد الاهتمام العالمي بالطب البديل فمن المتوقع أن نشهد خلال السنوات المقبلة مزيدا من الدراسات السريرية حول هذه العشبة الصحراوية المدهشة.
الصرع ونوبات التشنج تمثل تحديا طبيا كبيرا للعلم الحديث لكن الطبيعة ما زالت تخفي أسرارا مذهلة قد تساعد في مواجهة هذه الأمراض. الحرمل مثال واضح على ذلك إذ يجمع بين تاريخ طويل من الاستخدام الشعبي وبين دلائل علمية متزايدة على فعاليته.
ورغم أن الأطباء يحذرون من استخدامه بشكل عشوائي فإن الأبحاث تؤكد أن مستقبله واعد في تطوير أدوية طبيعية آمنة وفعالة ضد الصرع. إنها حقا مفاجأة غير متوقعة من أعماق الصحراء قد تغير حياة ملايين المرضى في المستقبل.
