منوعات عامة

وجبة يومية مشهورة على مائدة العرب تدمّر الكبد وتضعف جهاز المناعة بهدوء دون أن تدري

في قلب طقوسنا اليومية وتراثنا الغذائي، تكمن مخاطر قد لا نلحظها إلا بعد فوات الأوان. بين الأطباق الشهية والألوان الزاهية التي تزين موائدنا، يتربص “حلو الطعم” الذي تحوّل من مصدر للطاقة إلى عدو صامت يهدد صحة الكبد وجهاز المناعة، إنه السكر المضاف، وخاصة في شكل المشروبات الغازية والعصائر المحلاة.

لم يعد السر في الأمر خافياً على أحد في الأوساط الطبية، لكن الصدمة تكمن في كيفية تناوله بكميات تفوق حاجة الجسم بأضعاف مضاعفة، دون أن ندري، مدفوعين بعادات اجتماعية راسخة وإعلانات جذابة تروّج لمشروبات “منعشة” هي في حقيقتها قنابل موقوتة.

الكبد: أول الضحايا وأكثرهم معاناة

يشرح أستاذ الكبد والجهاز الهضمي، الدكتور محمد حسن، الآلية التي يقوم بها السكر بتدمير الكبد قائلاً: “الكبد هو المحطة الرئيسية لاستقلاب الفركتوز، وهو نوع من السكر موجود بكثرة في المشروبات المحلاة والصودا. عندما يتناول الإنسان كميات كبيرة من الفركتوز، يُجبر الكبد على تحويله إلى دهون. مع الاستمرار في هذه العادة الغذائية، تتراكم الدهون داخل خلايا الكبد، مما يؤدي إلى الإصابة بمرض الكبد الدهني غير الكحولي (NAFLD)”.

ويضيف د. حسن: “الخطر الحقيقي أن هذه الحالة قد لا تسبب أعراضاً واضحة في البداية، فتتطور بهدوء من مجرد تراكم للدهون إلى التهاب في خلايا الكبد (التهاب الكبد الدهني)، وقد تتطور إلى تليف الكبد وفشله الكامل في بعض الحالات، وهي مراحل خطيرة قد تستلزم زراعة كبد. والأكثر إثارة للقلق هو ظهور هذه الحالات بين صغار السن والمراهقين، بسبب الإفراط المبكر في تناول هذه المشروبات”.

جهاز المناعة: حصن ينهار من الداخل

أما تأثير هذه الوجبة اليومية على جهاز المناعة، فهو لا يقل خطورة. تقول اختصاصية التغذية العلاجية، الدكتورة هدى محمود: “تظهر الدراسات أن استهلاك كمية عالية من السكر (ما يعادل علبتين من المشروب الغازي) يمكن أن يثبّط عمل جهاز المناعة لمدة تصل إلى عدة ساعات بعد تناوله. السكر يتنافس مع فيتامين C الذي تحتاجه خلايا المناعة (خلايا الدم البيضاء) للقيام بعملها في محاربة الفيروسات والبكتيريا. عندما تكون مستويات السكر مرتفعة في الدم، تقل كفاءة هذه الخلايا بشكل ملحوظ، مما يجعل الجسم أكثر عرضة للعدوى والأمراض”.

وتشير د. هدى إلى تأثير آخر خفي، وهو أن السكر يغذي البكتيريا الضارة في الأمعاء، مما يخل بالتوازن البكتيري للميكروبيوم المعوي، والذي يُعد حجر الزاوية في صحة المناعة، حيث أن 70-80% من خلايا المناعة موجودة في الأمعاء. أي خلل في هذا النظام يؤدي بالضرورة إلى ضعف في الاستجابة المناعية العامة للجسم.

لماذا نقع في الفخ؟ تحليل العادات الغذائية العربية

ثمة أسباب عدة تجعل هذه “الكارثة الطبية” منتشرة في عالمنا العربي بشكل خاص:

1. العادات الاجتماعية: ارتبطت المشروبات الغازية والعصائر المحلاة بمناسبات الفرح والضيافة. فـ “علبة الصودا” أصبحت رمزاً للترحيب، والعصائر المعلبة بديلاً سريعاً عن الفاكهة الطازجة في كثير من البيوت.

2. ضغط الوقت: في ظل نمط الحياة السريع، يلجأ الكثيرون إلى هذه المشروبات كحل سريع للشعور بالطاقة، غير مدركين أنها طاقة زائفة تليها حالة من الخمول.

3. التسويق الجارف: تستهدف الحملات الإعلانية، خاصة في أوقات الصيف وفي شهر رمضان، الأطفال والعائلات، من خلال ربط هذه المنتجات بالسعادة والحيوية والعائلة.

4. الجهل بالمكونات: يجهل الكثيرون كمية السكر الهائلة الموجودة في علبة واحدة. فبعض المشروبات الغازية يحتوي على ما يعادل 9 مكعبات سكر في العلبة الواحدة، وهو ما يتجاوز الحد الأقصى اليومي الموصى به من منظمة الصحة العالمية (حوالي 6 مكعبات سكر للبالغين).

حلول عملية: كيف نحمي أنفسنا وعائلاتنا؟

الخبر الجيد هو أن هذه الكارثة يمكن تجنبها بخطوات بسيطة وواعية:

1. **الوعي بالكمية:** البدء بقراءة الملصقات الغذائية. ابحث عن كلمات مثل “سكر”، “شراب الذرة عالي الفركتوز”، “سكروز”، وقلل من المنتجات التي تحتوي على نسب عالية.

2. **البدائل الذكية:** استبدل المشروبات الغازية بالماء الفوار مع إضافة شرائح الليمون أو النعناع أو الفراولة. استبدل العصائر المعلبة بالعصائر الطازجة الطبيعية (وليس المعلبة حتى لو كُتب عليها “طبيعي”)، مع تناولها بكميات معتدلة لأنها تحتوي على سكر الفاكهة الطبيعي.

3. **إعادة تعريف الضيافة:** يمكن تغيير العادات الاجتماعية تدريجياً بتقديم مشروبات صحية مثل “التمر الهندي الطبيعي غير المحلى” أو “عصير الليمون بالنعناع” أو الماء المثلج كبدائل للضيافة.

4. **تثقيف الأطفال:** حماية الأطفال تبدأ من البيت. تشجيعهم على شرب الماء والحليب، وتقديم الفاكهة الكاملة بدلاً من العصير، هو استثمار في صحتهم المستقبلية.

5. **التدرج في الإقلاع:** لمن اعتاد على تناول هذه المشروبات يومياً، يمكن البدء بتقليل الكمية إلى النصف، ثم إلى أيام معينة، حتى التعود على العيش بدونها.

الوجبة اليومية التي تهدد صحتنا ليست طبقاً معيناً من الطعام، بل هي السائل المحلى الذي يرافقنا في لحظاتنا المختلفة. إنه الخطر الذي يأتي تحت مسمى “المنعش” و”اللذيذ”. حماية أنفسنا تتطلب وعياً يقظاً وإرادة لتغيير عادات راسخة، لكن الثمن هو صحة كبد سليم وجهاز مناعة قوي، وهو ثمن يستحق الجهد. الفعل اليوم هو وقاية من أمراض غدٍ قد تكون آثارها غير قابلة للعلاج.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!