منوعات عامة

عادة يومية يقوم بها الملايين دون انتباه تضعف شبكية العين ببطء وتؤدي إلى فقدان النظر مع الوقت

في خضم الحياة اليومية المزدحمة التي أصبح معظم الناس يعيشونها، تتكرّر مجموعة من العادات بشكل آلي دون وعي بآثارها الصحية بعيدة المدى. إحدى هذه العادات التي يحذر منها الأطباء بشدة في السنوات الأخيرة هي التعرض المفرط للشاشات الإلكترونية، سواء كانت الهواتف الذكية أو أجهزة الحاسوب أو التلفاز أو حتى الأجهزة اللوحية، حيث باتت جزءًا لا يتجزأ من روتين الإنسان الحديث. إلا أن هذا الاستخدام الطويل والمتكرر أصبح اليوم أحد الأسباب الرئيسية لتراجع صحة العين وتدهور شبكية العين مع مرور الوقت، مما يؤدي تدريجيًا إلى ضعف النظر وربما فقدانه في الحالات المتقدمة.

تشير الدراسات العلمية إلى أن العين البشرية غير مهيأة بطبيعتها للتعرض الطويل للضوء الأزرق الصادر عن الشاشات الرقمية، وهو ضوء عالي الطاقة يمكنه اختراق أنسجة العين والوصول إلى شبكية العين مباشرة. دراسة أجرتها جامعة توليدو الأمريكية عام 2018 كشفت أن التعرض المستمر للضوء الأزرق يحفز إنتاج جزيئات سامة داخل خلايا الشبكية، ما يؤدي إلى موتها تدريجيًا، وهي العملية نفسها التي تحدث في مرض التنكس البقعي المرتبط بالعمر، وهو أحد أكثر أسباب العمى شيوعًا في العالم.

كما بينت أبحاث طبية أن الأشخاص الذين يقضون أكثر من 6 ساعات يوميًا أمام الشاشات يعانون بنسبة أعلى بكثير من أعراض إجهاد العين الرقمي، مثل جفاف العين، تشوش الرؤية، الصداع المستمر، والشعور بوجود رمل داخل العين. هذه الأعراض غالبًا ما يُستهان بها، لكنها في الحقيقة إشارات مبكرة على أن العين تتعرض لإجهاد مزمن قد يضعف أنسجة الشبكية على المدى الطويل.

ولا يقتصر الخطر على الضوء الأزرق فقط، بل يمتد إلى سلوكيات مرافقة أصبحت شائعة جدًا، مثل استخدام الهاتف في الظلام أو قبل النوم مباشرة، وهو ما يضاعف التأثير الضار على العين. ففي الظلام، تتسع حدقة العين للسماح بمرور كمية أكبر من الضوء، وعند تسليط الضوء القوي للشاشة مباشرة في هذه الحالة، يتعرض النسيج الشبكي لضغط ضوئي مرتفع يسبب أضرارًا دقيقة ومتراكمة يصعب إصلاحها لاحقًا.

ويؤكد أطباء العيون أن أحد الأسباب الرئيسية لتدهور الرؤية المبكر لدى الشباب اليوم هو قلة فترات الراحة البصرية، إذ نادرًا ما يمنح الأشخاص أعينهم فرصة للاستراحة خلال ساعات العمل الطويلة أمام الأجهزة. العين مثل أي عضلة أخرى تحتاج إلى فترات استرخاء منتظمة. ولهذا ينصح الخبراء باتباع قاعدة بسيطة تُعرف باسم قاعدة 20-20-20: كل 20 دقيقة من استخدام الشاشة، انظر إلى شيء يبعد 20 قدمًا لمدة 20 ثانية. هذا السلوك البسيط يساعد على إعادة تركيز العين ومنع إجهاد العضلات المسؤولة عن الرؤية القريبة.

أما بالنسبة لطرق الوقاية الفعالة، فقد توصلت الأبحاث إلى مجموعة من الإجراءات التي يمكنها حماية العين وتقوية الشبكية بمرور الوقت. أولًا، يُنصح باستخدام نظارات مضادة للضوء الأزرق عند العمل أمام الشاشات لفترات طويلة، فهي تقلل من كمية الأشعة عالية الطاقة التي تصل إلى العين. ثانيًا، الاهتمام بالإضاءة المحيطة أثناء استخدام الأجهزة، حيث يجب ألا تكون الغرفة مظلمة تمامًا لتجنب التباين الشديد بين الشاشة والمحيط. ثالثًا، الاهتمام بالغذاء الصحي الغني بمضادات الأكسدة مثل فيتامين C وE والزنك واللوتين والزياكسانثين، فهذه العناصر الغذائية ثبت علميًا أنها تساهم في حماية خلايا الشبكية من التلف التأكسدي.

في دراسة أجراها المعهد القومي للعيون في الولايات المتحدة، تبين أن تناول مكملات تحتوي على اللوتين والزياكسانثين يقلل بنسبة تصل إلى 25% من خطر الإصابة بمرض التنكس البقعي، وهما مركبان طبيعيان يتواجدان في الخضروات الورقية الداكنة مثل السبانخ والكرنب والبروكلي. كما أوصت الدراسة بزيادة تناول الأسماك الدهنية الغنية بأحماض أوميغا-3، حيث تساعد هذه الدهون على الحفاظ على سلامة أغشية خلايا الشبكية وتحسين الرؤية الليلية.

جانب آخر لا يقل أهمية هو الحفاظ على ترطيب العين. الجفاف المزمن يجعل القرنية أكثر عرضة للتلف، ويقلل من قدرة العين على التخلص من الجزيئات المؤذية. لذلك يُفضل استخدام قطرات مرطبة خالية من المواد الحافظة عند الشعور بحرقة أو حكة في العين، مع شرب كميات كافية من الماء يوميًا لضمان توازن السوائل داخل أنسجة العين.

من المثير للاهتمام أيضًا أن بعض العادات البسيطة مثل رمش العين بانتظام يمكن أن تحدث فرقًا كبيرًا. أثناء التركيز على الشاشة يقل عدد مرات الرمش الطبيعي بنسبة تصل إلى 60%، ما يؤدي إلى تبخر الدموع الطبيعية بسرعة. لذلك يُنصح بزيادة الوعي بهذه العملية الطبيعية لتقليل الجفاف وحماية سطح العين.

ويشير الخبراء إلى أن الوقاية من ضعف شبكية العين لا تتعلق فقط بالعادات البصرية، بل أيضًا بالنوم الكافي وجودة الراحة. فقلة النوم تؤدي إلى زيادة مستويات الإجهاد التأكسدي في الجسم، ما يسرّع من تلف أنسجة العين. كما أن النوم في بيئة مظلمة تمامًا يساعد على إفراز هرمون الميلاتونين الذي يساهم في حماية الخلايا العصبية، بما فيها خلايا الشبكية.

قد يبدو الحديث عن الضوء الأزرق وإجهاد العين أمرًا بسيطًا أو بعيد المدى، لكن الحقيقة التي تؤكدها الدراسات الطبية هي أن هذه العادة اليومية الخطيرة — الجلوس الطويل أمام الشاشات دون فواصل أو وقاية — أصبحت من أهم أسباب تراجع النظر في العالم الحديث. ملايين الأشخاص يفقدون تدريجيًا جودة رؤيتهم بسبب إهمال هذه التفاصيل الصغيرة التي تتراكم مع مرور السنين لتحدث أضرارًا كبيرة لا يمكن علاجها بسهولة.

إن الحل لا يكمن في التوقف عن استخدام الأجهزة، فهذا أمر شبه مستحيل في هذا العصر، بل في إدارة الاستخدام بذكاء من خلال تقنيات الوقاية والعناية اليومية. فالوعي بعواقب هذه العادة قد يكون هو الخطوة الأولى لحماية أعيننا من خطر خفي يتسلل ببطء كل يوم دون أن نشعر. الحفاظ على صحة العين يبدأ من الوعي، والتغيير البسيط في السلوك اليومي يمكن أن يعني الفرق بين رؤية واضحة وحياة مليئة بالظلال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!